في هذا الجزء سنتحث عن مكونات الذرة والقوى الأساسية المتحكمة في هذه الجسيمات داخل الذرة
فإن كنت عزيزي القارئ ترغب في معرفة شيء عن هذه المكونات وعن هذه القوى التي تتحكم في حياتنا ووجودنا، أصلها ووظيفتها وأهميتها وتأثيرها علينا، والضبط المذهل لمقاديرها، والتناسب المدهش في ما بينها، فهيا بنا معا في جولة سريعة خلال السطور التالية، نحاول فيها التعرف على هذه المكونات الأساسية وعلى مميزات هذه القوى
داخل الذرة
يبدو الإلكتورن جسيما أساسيا غير قابل للتقسيم ، لكن النواة المركزية تتكون من جسيمات أخرى أصغر هي البروتونات والنوترونات .
يحمل البروتون شحنة موجبة وهو مصدر الشحنة الموجبة الإجمالية للنواة ، تزداد شحنة هذه الأخيرة بإزدياد عدد البروتونات الموجودة داخلها . ولكي تكون الذرة محايدة أو متعادلة كهربائيا يزداد حتما عدد الإلكتورنات التي تدور حول النواة ليتساوى مع عدد البروتونات. تتكون ذرة أبسط العناصر الكيميائية اي الهيدروجين على سبيل المثال من بروتون واحد وإلكترون واحد .
يعد عدد البروتونات داخل النواة بمثابة بطاقة هوية للعناصر الكيميائية ويطلق عليه أيضا العدد الذري . فمثلا الذرة او العنصر الذي يحتوي على 6 بروتونات يسمى عنصر الكربون ، العنصر الذي يحتوي على 26 بروتونا يسمى الحديد وهكذا …أي كل عدد ذري يقابله عنصر كيميائي معين
كما نعلم فالشحنات المتباينة تتجاذب والشحنات المتشابهة تتنافر لكن العجيب والغريب في الأمر كيف لهذه البروتونات التي تتنافر مع بعضها بفعل هذه الشحنة الكهربائية أن تتجمع داخل نواة الذرة. يرجع سبب ذلك الى قوة أخرى تسمى القوة النووية الشديدة أو التفاعل النووي وهي أقوى بكثير من التنافر الكهربائي ، ومن ثم فهي السبب الذي يحعل أنوية ذراتنا لا تنفجر على نحو تلقائي ، ولو قدر الله- فقط بالإفتراض – حدث خلل في هذه القوة النووية في انوية ذرتنا ستحدث كارثة …كما أنه ليس من الممكن حشد المزيد من البروتونات في مساحة ضيقة لعنصر ما حيث سيصبح التنافر الكهربائي قويا وهذا أحد الأسباب وراء إحتواء نواة أثقل العناصر الموجودة بصورة طبيعية -اليوارنيوم – على 92 بروتونا فقط في كل نواة ، فإذا حشدت المزيد من البروتونات فلن تتمكن النواة من البقاء . وللإشارة هناك عناصر اخرى وراء اليورانيوم لكنها عناصر عالية النشاط الإشعاعي ، على غرار البلوتونيوم الشهير بعدم إستقراره .
تحتوي العناصر الكيميائية الأخرى باستثناء الهيدروجين على جسيمات اخرى تسمى النوترونات وهي جسيمات محايدة كهربائيا حجمها وكتلتها يقاربان حجم وكتلة البروتونات ، تتماسك النوترونات بنفس القوة التي تتماسك بها البروتونات وكونها متعادلة كهربائيا فهي لا تعاني من اي خلل كهربائي عكس البروتونات .وبهذا تساعد على إستقرار النواة
حين تكون النوترونات في هذه البيئة كما الحال على سبيل المثال في نواة ذرة الحديد تستطيع البقاء لمليارات الأعوام دون تغير . لكن بعيدا عن مثل هذا التجمع المتماسك ، يتميز النوترون المنفرد بعدم إستقراره ،و يمكن تدميره وتحويله الى بروتون تحت تأثير قوة أخرى تسمى القوة النووية الضعيفة ، ويمكن ان يحدث هذا عند حشد المزيد من النوترونات الى جانب البروتونات داخل النواة . وتعرف هذه الظاهرة بالنشاط الإشعاعي ونتيجة لذلك تتحول نواة عنصر الى نواة عنصر أخر .
إذا قمنا بتكبير البروتون والنوترون ألاف المرات فسنلاحظ أن لهما بنية داخلية غنية ، فالبروتون والنوترون يشبهان سرب النحل حين يرى عن بعد يعتقد انه بقعة داكنة لكن حين يرى عن قرب يتبين انه عبارة عن سحابة تعج بالطاقة . فعند التصوير تحت الطاقة المنخفظة سيدوان لك أشبه بنقاط بسيطة لكن عند النظر اليهما بميكروسكوب عالي الدقة يتضح انهما يتكونان من جسيمات أصغر تسمى الكواركات .
لنستشهد مرة أخرى بالنقطة الموضوعة في نهاية العبارة . لقد تعين علينا تكبيرها الى 100 متر حتى نرى الذرة ، والى قطر كوكب الأرض حتى نرى النواة . لكن للكشف عن الكواركات سنحتاج تكبير النقطة الى حدود مسافة بعد القمر عن الأرض ، ثم تكرار ذلك عشرين مرة .
باختصار البنية الأساسية للذرة تتخطى حدود الخيال
لقد وصلنا أخيرا الى الجسيمات الجوهرية لللمادة ، فالإلكترونات والكواركات عبارة لبنات وقطع أساسية التي منها يتألف كل شيء . هل فعلا الألكترونات والكوراكات هي اللبنات الأساسية التي يتكون منها كل شي أم ان هناك وجود لشي اخر أكثر جوهرية يسمح لتلك الجسيمات في الترابط وهل هناك جسيمات أخرى تدخل في تركيب المادة وهذا ما سنتعرف عليه في الفقرات المقلبة .
القوى الأساسية :
كشف الفيزيائيون عن أربعة قوى أساسية في الكون ، تؤثر في كل ذرة من ذرات هذا الكون، بما فيها ذرات أجسامنا، ولكننا لا نشعر بشكل مباشر إلا بواحدة منها،مع أن أهمية هذه القوى لا تقل عن أهمية الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله لحياتنا، بل لوجودنا، فلولاها لما وجدنا، بل لما وجد الكون كله على صورته الحالية.
وأول القوى هي قوى الجاذبيّة وهي القوة التي نشعر بها جميعا والتي من آثارها أنها تجذبنا وتجذب كل الأجسام من حولنا نحو الأرض، والتي بسببها تكون لنا أوزان.
وقد قلنا « الجاذبية » ولم نقل « الجاذبية الأرضية »، لأن الجاذبية الأرضية حالة واحدة من قوة شاملة عامة، فكل أجرام الكون تتجاذب فيما بينها، إن الحاسوب الذي تنظر إليه الآن، والقلم الذي بجواره يتجاذبان، ولكن قوة الجاذبية بينهما ضعيفة جداً لا تكاد تؤثر عمليا بأي منهما ولا يمكن ملاحظتها، لأنها متناسبة مع كتلة الأجسام المتجاذبة ومتناسبة عكسيًّا مع المسافة التي تفصل بينها ( قانون نيوتن للجاذبيّة أو ما يعرف بقانون التجاذب الكوني ). هذا يعني أنّه كلّما زادت كتلة الأجسام المتجاذبة، كلّما زادت قوّة الجاذبيّة بينها.. وكلّما زادت المسافة بين الأجسام المتجاذبة، كلّما قلّت قوّة الجاذبيّة بينها. أما قوى الجاذبيّة بين الذرّات والجسيمات دون الذريّة فهي صغيرة جدًّا (لأنّ كتلة هذه الأجسام صغيرة جدًّا)، ولهذا عادة ما يتمّ تجاهلها على المستوى الذرّي. ذلك أن الجاذبية هي القوة الأضعف بين القوى التي نتحدث عنها، الأضعف؟! نعم الأضعف رغم أنها هي أكثر القوى التي نشعر بها وتؤثر فينا. وسبب قوة تأثيرها علينا نحن سكان هذا الكوكب ، هو الفرق الشاسع بين كتلة أجسامنا وكتلة الأرض.
القوى الكهرومغناطيسيّة هي قوى جذب أو تنافر، وتعمل بين الأجسام المشحونة كهربائيًّا أو الأجسام المغناطيسيّة. هذه القوّة متناسبة من حيث المقدار مع شحنة الأجسام المتجاذبة أو المتنافرة، ومتناسبة عكسيًّا مع المسافة التي تفصل بينها ( قانون كولوم للشّحنات الكهربائيّة). عندما تكون القوّة سالبة، هذا يعني أنّ الأجسام ستتجاذب.. وعندما تكون القوّة موجبة، فهذا سيعني أنّ الأجسام ستتنافر. هذه القوى هي قوى هامّة جدًّا لفهم الخصائص الكيميائيّة للذرّات.
وحتى نتبين مدى ضعف قوة الجاذبية التي تحدثنا عنها، فإن القوة الكهرومغناطيسية أقوى من الجاذبية بمقدار 1036 ، قد يبدو هذا الرقم هائلاً فوق تصورنا ولكنه حقيقي وقد حسبه العلماء بدقة، وهو يدل على مقدار ضعف الجاذبية الذي أشرنا إليه سابقاً.
وهذا الكلام معناه أنه إن كان لدينا في ذرة من الذرات بروتون وإلكترون، فإن كلاً منهما يؤثر في الآخر بقوتين: الجاذبية والكهرومغناطيسية، ولكن مقدار القوة الكهرومغناطيسية التي يتجاذبان بها هي أكبر من الجاذبية بمقدار عشرة وأمامها 36 صفراً، ولزيادة التوضيح نضرب مثالاً عملياً، لو رمينا مسمارا في الهواء فإنه سيسقط على الأرض، لأن الأرض ستجذبه، ولكن لو قربنا إليه قطعة مغناطيس صغيرة فإنها ستجذبه وستلتقطه وترفعه عن الأرض، إي إن القوة الكهرومغناطيسية التي أثرت بها قطعة المغنطيس الصغيرة على المسمسار، هي أكبر من الجاذبية التي تؤثر بها الأرض بكتلتها الضخمة على هذا االمسمار. وهذا المثال يبين بوضوح مدى ضآلة الجاذبية مقارنة بغيرها من القوى الأساسية.
ولكن القوة الكهرومغناطيسية تثير سؤالاً مهماً: قلنا إن الاجسام المختلفة في الشحنة تتجاذب، والمتماثلة تتنافر، والإلكترونات السلبية تنجذب إلى نواة الذرة الإيجابية، ولكن ما تفسير تجمع البروتونات ببعضها البعض لتشكل نواة الذرة مع أنها كلها إيجابية الشحنة؟ لماذا لا تتنافر؟ الجواب هو لأن هناك قوة أكبر تؤثر بها وهي القوة النووية الكبرى.
القوّة النّوويّة الشّديدة : كلّ نوى الذرّات، بإستثناء نواة ذرّة الهايدروجين، تحتوي على أكثر من بروتون واحد. ولكن بما أنّ الشّحنات المماثلة تتنافر، إذا لم يكن هنالك قوى أخرى تحافظ على تماسك وتقارب البروتونات في النّواة، فإنّ التّنافر الكهربائيّ بينها سيؤدّي إلى تحلّل الذرّة وتناثر البروتونات من النّواة. القوّة التي تحافظ على تماسك نواة الذرّة هي القوّة النّوويّة الشّديدة، وهي قوّة تعمل بين الأجسام دون الذريّة. وسرّ نجاحها بإبقاء البروتونات متماسكة في نواة الذرّة يُعزى إلى الحقيقة بأنّها أقوى من القوّة الكهرومغناطيسيّة.
ولو تنافرت البروتونات لما كان لدينا مادة في الكون، غير الهيدروجين، لأنه يحتوي على بروتون واحد، والقوة النووية الكبرى تزيد مائة ضعف عن القوة الكهرومغنطيسية، أي لو أن كل بروتون يتنافر مع جاره في نواة الذرة بقوة كهرومغناطيسية مقدارها (a)، فهما يتجاذبان بقوة نووية كبرى مقدارها (100a)، لذلك تتماسك البروتونات، أما بالنسبة للجاذبية فإن القوة النووية الكبرى أكبر من قوة الجاذبية بمقدار 1038
ورغم الضخامة الهائلة للقوة النووية الكبرى، فإننا لا نشعر بها لأن مجال تأثيرها محدود جداً، لا يتعدى الأبعاد الجزئية لنواة الذرة، والطاقة النووية التي نعرفها، والتي يستخدمها العلماء لتوليدها مادة اليورانيوم، هي تلك الطاقة الكبرى المختزنة في نواة الذرات.
واليورانيوم هو أكبر العناصر المعروفة في الطبيعة من حيث حجم نواة الذرات التي يتكون منها، وبالتالي كمية القوة النووية الكبرى التي يختزنها، فذرة اليورانيوم تحتوي على 92 بروتون، وهي كلها متماسكة بفعل القوة النووية الكبرى، وما يفعله العلماء لتوليد الطاقة النووية هو تحرير هذه القوة التي بسببها يتماسك هذا العدد الكبير من البروتونات، عن طريق عملية تسمى الانشطار الذري، وهي ليست موضوعنا الآن، ويكفي أن نعلم أن وقوداً نووياً قوامه نصف كيلوغرام فقط من اليورانيوم يكفي لتزويد غواصة ذرية بطاقة تعادل ما يزيد على الطاقة التي يزودها بها ربع مليون لتر من الوقود السائل.
القوّة النّوويّة الضّعيفة : هذه القوّة هي المسؤولة عن النّشاط الإشعاعي المصاحب لتحلّل الأجسام دون الذريّة. القوّة النّوويّة الضّعيفة هي في الواقع أقوى من قوّة الجاذبيّة، ولكنّها أضعف من القوّة الكهرومغناطيسيّة وبالأرقام هي أكبر من قوة الجاذبية بمقدار 1025، والقوة النووية الكبرى أكبر من القوة النووية الصغرى بمقدار 1013
.وفي الجزء الثالث سنتحدث عن مميزات هذه الجسميات الأولية
إعــداد : رشيــد جنكــل