سنتحدث في هذا الجزء عن المراحل والكيفية التي يتم بها تعجيل وتسريع الجسيمات داخل المعجلات لكن الان دعوننا نتحدث عن متطلبات المعجلات . فلتسريع الجسيمات الى طاقات تقارب العشرات او المئات من الجيغا إلكترون فولط ، سنحتاج الى مسافات كبيرة . في هذا الصدد إستطاع العلماء في منتصف القرن العشرين تعجيل الإلكترونات في مركز معجل ستانفورد الخطي بكاليفورنيا الذي يبلغه طوله ثلاثة كيلومترات ، حتى وصلت طاقتها الى 50 جيغا إلكترون فولط . وفي اواخرالقرن العشرين إستطاعوا تسريع الجسمات في مختبر سيرن بجنيف أكثر حيث دفعت الألكترونات الى الدوران في دائرة طولها 27 كيلومترا حتى وصلت الى طاقة مقدراها 100 جيغا إلكترون فولط . اما البروتونات تحقق مستويات طاقة اعلى إلا انها تحتاج الى معجلات كبيرة وعملاقة نظرا لضخامتها مقارنة مع الإلكترونات . ويرجع هذا التناقض المتمثل في بناء ألات ضخمة وعملاقة لإستكشاف أصغر وادق المسافات الى الترابط الوثيق بين هذه المسافات المتناهية الصغر والمراد كشفها و الأطوال الموجية القصيرة المطلوبة لإستكشاف هذه المسافات وكذا الطاقات العالية للحزم اللازمة لتحقيق هذا الهدف وقد وضحنا سابقا هذا الشرط المتمثل في الكشف عن الجسيمات الدقيقة والحساسة في الجزء السابق .
كانت هذه التجارب هي المراحل الأولى في الكشف عن أسرار نواة الذرة عن طريق قصفها بحزم من الجسيمات العالية الطاقة ،نعم العالية الطاقة مقارنة مع الطاقة المحتواة داخل نواة منفردة التي تبقي اعلى تماسك النواة . تستطيع هذه الحزم بفعل هذه الطاقة العالية تكسير أو تهشيم النواة وإنتاج جسيمات جديدة ، في ما يسمى انذاك « تهشيم الذرات » و تسمية المعجلات « بمهمشات الذرات « . لكننا اليوم نفعل ما هو أكثر وبالتالي لم تعد هذه التسمية صالحة في الوقت الحالي .
السؤال الذي يطرح نفسه ما الفرق بين الإلكترون والبروتون من ناحية إنتاج الطاقة الكافية لإسكتشاف ما بداخل النواة ؟ او بعبارة اخرى لماذا الطاقة الممنوحة من طرف البروتونات اكبر من الطاقة الممنوحة من طرف الإلكترونات عند تسريعهما في معجلات الجسيمات ؟
الإلكترونات والبروتونات جسيمات مشحونة كهربائيا التي تتألف من الذرات ، اما النوترونات فهي جسيمات غير مشحونة ، إن هذه الميزة الرائعة التي تتميز بها هذه الجسيمات أي الشحنة تجعل من هذه الجسيمات : الألكترونات والبروتونات أدوات أساسية ومهمة لإستكشاف أعماق الذرة .
إستعملت حزم الإلكترونات منذ القرن التاسع عشر رغم انه لم يعرف أحد أنذاك طبيعتها وماهيتها ، حيث لوحظ عند مرور التيار الكهربائي عبر الغازات تحت ضغط منخفظ للغاية أشعة رقيقة على شكل حزمة رفيعة كالقلم الرصاص ، عرفت « بأشعة الكاتود » . ونعلم الان انها تتكون من الإلكترونات . والمثال المعروف والمتداول الذي يبرز هذه العملية اليوم هو جهاز التليفزيون الحديث ، حيث الكاثود هو السلك الساخن الموجود في الخلف والذي تبعث منه حزمة من الألكترونات كي تظهر على الشاشة عندما ترتطم بها
وكانت أولى المفاجئات في القرن التاسع عشر حين أكتشف أن الأشعة يمكنها إختراق المادة الصلبة فالمادة الصلبة الملموسة صارت شفافة على المستوى وقد علق فيليب رينارد الذي اكتشف هذا الامر قائلا » المساحة التي يشغلها متر مكعب من البلاتين الصلب خاوية . مثلها مثل الفضاء النجمي الموجود خارج الأرض » وثاني المفاجئات في هذا المستوى إكتشاف الألكترون والنشاط الإشعاعي في السنوات الأولى من القرن العشرين وقد شكل هذان الأكتشافان الأدورات الضرورية للكشف عن البنية الداخلية للذرة ..
أكتشف الإلكترون سنة 1897 على يد جوزيف جون طومسون . وتستخلص الإلكترونات من الذرات عن طريق رفع درجات الحرارة الى ما يقارب بضعة ألاف درجة حرارة مئوية وبفعل الشحنة الكهربائية التي تحملها الإلكترونات يتم تسريعها بواسطة المجالات الكهربائية لتصل طاقتها الى طاقة اكبر لإستكشاف البنى الذرية والنووية .
تستعمل جسميات أخرى في هذا المجال على غرار الإلكترونات كالبروتونات وجسيمات ألفا لما لها من مميزات وخصائص غيرموجودة في الإلكترونات : فالبروتون له كتلة تساوي 2000 مرة كتلة الألكترون وبالتالي ستكون الطاقة الناتجة عن البروتون أكبر بكثير من الطاقة الممنوحة من طرف الإلكترون عن التعجيل كماأن جسيم ألفا الذي هو عبارة عن نواة ذرة الهيليوم أي تجمع مضغوط بين بروتونين ونوترونين ، موجب الشحنة وانه أثقل من البروتون بطبيعة الحال وانه يتم الحصول عليه مجانا عن طريق العناصر الثقيلية حيث أغلب العناصر الثقيلة تطلق هذه الجسيمات تلقائيا ، ومن تم تشكل مصدرا مجانيا لهذه الإستكشافات . وتعرف هذه العملية بالنشاط الإشعاعي ألفا حيث تسعى العناصر الثقيلة من خلال تحرير هذه الجسيمات لإكتساب الإستقرار . ولا نريد الخوض في تفاصيل هذه العملية لانه ليس موضوعنا في هذه السلسلة يكفينا القبول بأنها موجودة إن كنت لم تعرفها مسبقا . وانه الجسيم ألفا يكتسب طاقة حركية أثناء هذه العملية ويمكنه إختراق الموادة المواد المحيطة به . وبهذه الطريقة تمكن العالم الشهير إرنست رذرفورد ومساعدوه جايجر ومارسدن من إكتشاف لأول مرة من وجود النواة .
قام رذفورد بتسليط جسيمات ألف من مصدر مشع موضوع داخل وعاء من الرصاص ومفتوح في أحد أوجهه على صفيحة رقيقة من الذهب ويحبط بالصفيحة من جميع الجهات ألواح خاصة تصدر ومضات من الضوءعند إرتطام دقائق الفا بها في ما يعرف أنذاك بتجربة رقاقة الذهب ، فوجد ان بعض الأشعة تنعكس والبعض ينحرف والبعض الأخر يخترق صفيحة الذه دون أن تنحرف ، ومن خلال هذه الملاحظات إستنتج روذرفورد وزملاؤه مجموعة من الإستنتاجات : إختراق معظم جسميات ألفا صفيحة الذهب يدل على أن معظم حجم الذرة عبارة عن فراغ . تشتت جسيمات ألفا الموجبة الشحنة وإنحرافها ورجوعها بعضها في إتجاه المصدر يدل على وجود جسيم موجب الشحنة مسؤول عن هذا الإرتداد والمعروف حاليا بنواة الذرة ، وهكذا إكتشفت لأول مرة عن المكون الأساسي للذرة المتمثل في النواة .
ولفهم هذه التجربة سنحاول أن نبسطها ، لقد صدت جسيمات ألفا الموجبة الشحنة بواسطة نواة الذرة الموجبة الشحنة : نواة ذرة الذهب ،وإرتدت عنها مثلما يرتد جسم خفيف ككرة التنس عند إرتطامه بجسم اخر تقيل ككرة القدم مثلا . جسيمات ألفا أخف بكثير من أنوية الذهب بيد انها أثقل من البروتونات التي يؤل منها نواة ذرة الهيدروجين ، لذا إذا وجهت جسيمات نحو الهيدروجين فإن ذرات الهيروجين أي البروتونات ستندفع مع جسيمات ألفا نحو الأمام مثلما تفعل كرة القدم عندما ترتطم بكرة التنس الخفيفة ، وقد كشف هذا في الأتار الذي تخفله هذه الجسيمات على الألواح الخاصة في الغرف السحابية .
وبهذه التجربة بدأ استنتاج التركيب العام للذرة و خططت نماذج للذرة حيث تتفق كل هذه النماذج في كون الذرة عبارة عن نواة مركزية موجبة تدور حولها إلكترونات بينهما فراغ شاسع .
لا تتميز جسيمات ألفا التي تقدفها العناصر الثقيلة تلقائيا بالقوة الكبيرة والكافية لاستكشاف العناصر الموجودة داخل نواة الذرة فهي تحمل فقط بضعة من الميغا إلكترون فولط من الطاقة الحركية وهي الطاقة اللازمة لإستكشاف البنى التي لها أمتار أكبر من 12-10 أمتار فقط أي قادرة على إستكشاف الذرات وانويتها إلا انها غير قادرة على إستكشاف ما بداخل هذه الأنوية كالبروتونات والنوترونات لأن أبعادها تقارب 15-10 أمتار والتي تتطلب حزم جسيمات ذات طاقات اكبر .
ففي عام 1932 بني أول معجل للجسيمات ذات الشحنة الكهربائية وظلت البروتونات الموجبة الشحنة هي المفضلة لما يزيد عن الخمسين عام لكونها حاملة لطاقات اكبر من طاقات تحملها الإلكترونات إلا ان اللإلكترونات مزايا خاصة في فهم بنية نواة الذرة بل حتى معارفنا بشان البروتونات والنوترونات.
كما يمكن الحصول على الإلكترونات مجانا ، كجسيمات ألفا، عن طريق النشاط الإشعاعي بيتا ، إلان ان لهذه الإلكترونات طاقات تناهز بضعة من الميغا إلكترون فولط فقط وبهذا تمكننا فقط من معاينة ورؤية النواة كما تمكننا جسيمات الفا ، دون القدرة على إستكشاف البنية الداخلية للنواة.
وتعد عملية تأيين الذرات وتحرير إلكترونها وتعجيلها بواسطة مجالات كهربائية أولى مراحل التقدم في هذا المجال حيث في منتصف خمسينيات القرن العشرين في ستانفورد بكاليفورنيا مكنت حزم جسيمات ذات طاقات قدرها 100 ميغا إلكترون فولط الى 1 جيغا إلكترون فولط من إستكشاف عناصر تقترب مسافتها من15-10 أمتار. كما إن إرتداد إلكترونات عن البرتونات والنوترونات يدل على وجود عناصر أخرى داخل هذه الجسيمات النووية ويتجلى ذلك في التأثيرات المغنطيسية وغيرها من الخواص التي يخلفها النوترون والتي توحي بأن هناك شحنتين داخل النوترون رغم ان النوترون متعادل كهربائيا …ومنذ هذا التطور النوعي بدأت التساؤلات والملاحظات تطرح حول كيفية توزيع الشحنة داخل البروتونات والنوترونات .
وفي عام 1968 ، تم إكتشاف حقيقية مفادها ان البروتونات والنوترونات تحتوي على جسيمات أخرى تسمى الكواركات وتم ذلك بواسطة المعجل الخطي البالغ طوله ثلاثة كيلومترات في ستانفورد . حيث مكنت التجارب فيما بعد ، بعد تسريع الإكلترونات الى طاقات أعاى تصل الى 10 جيغا إلكترون فولط ، من إستكشاف مسافات قدرها 16-10 أمتار أي أصغر عشر مرات من البروتون .
عندما أرسلت الأكترونات نحو البروتون بهذه الطاقات وجد أنها تتشتت بقوة ويشبه هذاالتشتت القوي ، التشتت الذي وقع نحو 50 عاما لجسيمات ألفا حين إرسالها نحو الذرة ، وهكذا يبين هذا التشتت القوي الغير المتوقع للإلكترونات العالية الطاقة أن شحنة الروتونات والنوترونات مركزة في أجسام نقطية تسمى الكواركات وسميت أجسام نقطية لكوننا نعجز عن الكشف ما إذا كان لها بنية داخلية خاصة من عدمها .
وبالتالي وفق هذه التجارب تصبج الإلكترونات والكوراكات المكونات الأساسية للمادة عموما
وسنتحدث في الجزء الموالي عن عمق المادة أكثر . … تابعونا
للموضوع بقــية
إعــداد : ذ.رشيـــد جنــكــل